فصل: تفسير الآيات (30- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (30- 34):

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)}
{كَذَلِكَ} المكان {أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ليقرأ عليهم القرآن {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن}.
قال قتادة ومقاتل وابن جريح: نزلت في صلح الحديبية حتى أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم».
فقال سهيل بن عمرو والمشركون معه: ما نعرف الرحمن إلاّ صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال المشركون وقريش: لئن كتب رسول الله بِمَ قاتلناك وصددناك قال فأمسك ولكن اكتب هذا ما صالح محمد ابن عبد الله.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعنا نقاتلهم.
قال: «لا ولكن اكتبوا كما تريدون»، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «اسجدوا للرحمن» فقالوا: وما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال: قل لهم يا محمد: إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} ومضى {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} الآية نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أُمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أُمية: إن تشرك نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تُفتح. فإنها ضيّقة، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أُمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا.
فقد كان سليمان سخرت له الريح، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود.
وأحيي لنا جدك أيضاً ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل؟ فإنّ عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} وأذهبت عن وجه الأرض {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} أي شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً.
{أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} واختلفوا في جواب لو، فقال قوم: هذا من النزول المحذوف الجواب أقتضى بمعرفة سامعه مراده وتقدير الآية لكان هذا القرآن.
كقول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت بتوبة ** ولكنها نفس بقطع النفسا

يعني لهان عليَّ، وهي آخر بيت في القصيدة.
وقال آخر:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ** سواك ولكن لم نجد لك مرفعاً

فأراد أرددناه، وهذا معنى قول قتادة. لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم.
وقال آخرون: جواب لو يقدم وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} الآية كأنه قال ولو أنّ قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن وبما آمنوا.
ثم قال: {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا}.
قال المفسرون: أفلم يعلم.
وقال الكلبي: هي بلغة النخع حي من العرب.
وقال القاسم معن: هي لغة هوازن.
وقال سحيم بن وثيل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ يسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

أراد ألم يعلموا، وقوله: هاد يسرونني أي يقتسمونني من الميسر كما يقتسم الجزور.
ويروى: لمسرونني من الأسر.
وقال الآخر:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ** وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً

ودليل هذا التأويل قراءة ابن عباس: أفلم يتبين، وقيل لابن عباس: المكتوب «أفلم ييئس» قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.
وأما الفراء: فكان ينكر ذلك ويزعم أنه لم يُسمع أحدٌ من العرب يقول: يئست وهو يقول هو في المعنى وإنْ لم يكن مسموعاً يئست بمعنى علمت متوجه إلى ذلك، وذلك أنّ الله تعالى قد أوحى إلى المؤمنين أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعاً.
فقال ألم ييئسوا علماً يقول يؤسهم العلم فكان العلم فيه مضمراً كما يقول في الأعلام يئست منك أن لا يفلح علماً كأنه قول علمته علماً.
قال الشاعر:
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا ** غضفاً دواجن قافلا اعصامها

بمعنى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن إلاّ الذي ظهر لهم أرسلوا فهو في معنى: حتى إذا علموا أن ليس وجه إلاّ الذي رأوا وانتهى علمهم فكان ما سواه يأساً.
{أَنْ لَوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} من كفرهم وأعمالهم الخبيثة {قَارِعَةٌ} داهية ومصيبة وشديدة تقرعهم من أنواع البلاء والعذاب أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقتل وأحياناً بالأسر.
وقال ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليها {أَوْ تَحُلُّ} أي تنزل أنت يا محمد بنفسك {قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ}.
وقال قتادة: هي تاء التأنيث يعني وتحل القارعة قريباً من دارهم {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه، وقيل يعني القيامة {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد * وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أصلهم واطلب لهم ومنه الملاوة والملوان ويقال طبت حيناً، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي حافظها ورازقها وعالم بها ومجاز بها ما عملت، وجوابه محذوف تقديره: كمن هو هالك بائدلا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئاً ولا يدفع عن نفسه، نظيره قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل} [الزمر: 9] يعني كمن ليس بقانت {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} بيّنوا أسماءهم ثم قال: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} يعني يخبرون الله {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض} فإنه لم يعلم لنفسه شريكاً ولا في الأرض إلهاً غيره {أَم بِظَاهِرٍ} يعني بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ولا باطل صالح ولا حاصل وكان أُستاذنا أبو الاقسم الحبيبي يقول: معنى الآية عندي: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر من القول يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه قل لهم سموهم، وبينوا من هم، فإن الله لا يعلم لنفسه شريكاً، ثم قال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} كيدهم.
قال مجاهد: قولهم يعني شركهم وكذبهم على الله.
{وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} وصرفوا عن الدين والطريق المستقيم.
قرأ أهل الكوفة: بضم الصاد واختاره أبو عبيد بأنه قراءة أهل السنة: وفيه إثبات القدر.
وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو حاتم اعتباراً بقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [الحج: 25] وقوله: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] وقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [النساء: 167] {وَمَن يُضْلِلِ الله} يعني إياه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} موفق {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أشد {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} مانع يمنعهم من العذاب.

.تفسير الآيات (35- 40):

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}
{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل.
فقال الفراء: هو ابتداء وخبر على قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقيل معنى المثل الصفة كقوله: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] أي الصفة العليا وقوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} [الفتح: 29] ومجاز الآية صفة الجنة التي وعد المتقون أنّ الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا.
وقيل مثل وجه مجازها الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار، والعرب تفعل هذا كثيراً بالمثل والمثل كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أي ليس هو كشيء.
وقيل معناه: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} [الرعد: 18]. قيل الجنة بدل منها.
قال مقاتل: معناه شبه الجنة التي وعد المتقون في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار في العذاب والشدّة والكرب.
{أُكُلُهَا دَآئِمٌ} لا ينقطع ولا يفنى {وِظِلُّهَا} ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية، حيث قالوا: إن نعيم الجنة يفنى {تِلْكَ عقبى} يعني ما فيه {الذين اتقوا} الجنة {وَّعُقْبَى الكافرين النار * والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعني القرآن وهم أصحاب محمد {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {وَمِنَ الأحزاب} يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة.
وقال باقي العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبدالله. ابن سلام وأصحابه: ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن؛ لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله الله تعالى {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] الآية.
فقالت قريش حين نزلت هذه الآية: ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36] وهم يكفرون بالرحمن وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} الله من ذكر الرحمن {وَمِنَ الأحزاب} يعني مشركي قريش من يذكر بعضه. قال الله {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} مرجعي {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب، كذلك أيضاً أنزلنا الحكم والدين حكماً عربياً، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الاحزاب بهذا الحكم أيضاً، وقال قوم معنى الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حكماً عربياً ثم توعده على إتباع هوى الأحزاب فقال: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} قيل بما شاء الله، وقيل في أهل القبلة لأنّه {مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} فجعلناهم بشراً مثلك {وَجَعَلْنَا لَهُمْ} نكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشراً مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأُمم بشراً مثلهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} وهذا جواب عبد الله بن أبي أُمية ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده، الضحاك: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ}.
قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ويثبت بالتخفيف.
وقرأ الآخرون: بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ} [إبراهيم: 27].
واختلف المفسرون في معنى الآية، فروى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يمحو الله ما يشاء إلاّ الشقاوة والسعادة والموت».
وعن ابن عباس قال: يمحو الله ما يشاء إلا أشياء: الخَلْق والخُلْق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يمحو الله فهما ما يشاء ويثبت {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} الذي لا يغير منه شيء.
أبو صالح والضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب.
وروى عفان عن همام عن الكلبي: يمحو الله ما يشاء ويثبت. قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قلت من حدثك؟
قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال: حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قولك أكلت، شربت، دخلت، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب.
وقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء ويثبت كل ما يشاء من غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
روى أبو عثمان النهدي: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت عليَّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُم الكتاب.
ابن مسعود: إنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُم الكتاب.
وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم: أن كعباً قال لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لولا اية في كتاب الله لأُنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: وما هو؟ قال: قول الله تعالى {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}.
وروى عطية عن ابن عباس: في هذه الآية قال: هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول: خير أُمتي يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يمحو الله ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها كقوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} [يس: 31] وقوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [المؤمنون: 31].
سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء وما ينسخه.
الحسن: لكل أجل كتاب يعني آجال بني آدم في كتاب يمحو الله ما يشاء من جاء أجله فيذهب به ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله.
مجاهد وابن قيس: حين ما أنزل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [الرعد: 38] ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره. فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعداً لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر. قاله بأشياء ويحدث في كل رمضان في ليلة القدر فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له.
محمد بن كعب القرظي: إذا ولد الإنسان. أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه.
وروى سعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء بتركها فلا يغفرها.
عكرمة: يمحو الله ما يشاء يعني بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات فإنه {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].
وروى عن الحسن أيضاً: يمحو الله ما يشاء يعني الآباء ويثبت يعني الأبناء.
السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس.
بيانه قوله: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
ربيع: هذا في الأرواح في حال النوم يقبضها عند النوم فمن أراد موته محا وأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه.
بيانه قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42].
وقيل: يمحو الله ما يشاء الدنيا ويثبت الآخرة.
وروى محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأُولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه آخر غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء».
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة جنانها رمان من ياقوت ولله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب.
قال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب يعني اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل.
قال قتادة والضحاك: حلية الكتاب وأصله فيه ما يمحو ويثبت.
فسأل ابن عباس كذا عن أُم الكتاب.
قال: يعلم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن نريك ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} الذي عليك أن تبلغهم {وَعَلَيْنَا الحساب} والجزاء.